أجــيــال- الجالية السودانية بمصر Headline Animator

الثلاثاء، 1 مايو 2012

قرار الاتحاد الإفريقي استنساخ للإيقاد ثم نيفاشا جديدة..د. غازي صلاح الدين



قرار الاتحاد الإفريقي استنساخ للإيقاد ثم نيفاشا جديدة..د. غازي صلاح الدين


غازي صلاح الدين
بين حين وآخر أستصوب ألا تنحصر نصيحتي في دوائر الاستشارة الضيقة التي يفرضها المنصب الرسمي. ويكون ذلك عندما أرى أن موضوع النصح جدير بأن يتفاعل معه الرأي العام بحسبانه أمراً يتعلق بالحقوق الوطنية التي تهم جميع المواطنين، وهو ما يحدث كلما مرت البلاد بمنعطف مصيري.

في سبتمبر من عام 1994 انتُدبت لقيادة وفد مباحثات السلام في كينيا بدلاً من الرئيس السابق للوفد. كان ذلك التكليف لمرة واحدة فقط، وكانت المهمة التي أوكلت إليّ واحدة ومحددة للغاية وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد الذي صاغه الوسطاء أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها.

الدافع لهذا التحول نما من الإدراك بأن مبادرة الإيقاد أصبحت شركاً كبيراً. فهذه المنظمة التي ترجمة اسمها «السلطة بين الحكومات من أجل التنمية»، والتي لم تكن تملك في رصيدها آنذاك ولا الآن إنجازاً واحداً في التنمية، استخدمت واجهة للولوج إلى عمق الشأن السوداني. وكانت الدول الأربع التي تولت التوسط بين الحكومة السودانية والحركة المتمردة آنذاك «يوغندا، كينيا، إثيوبيا، إريتريا» في عداء مستحكم مع السودان، ولم يكن مرجواً من أيٍّ منها أن ينصف السودان في أية قضية محل نزاع، وهذا بالضبط ما حدث.
أدى الوفد مهمته بكفاءة عالية، إذ دام الاجتماع حوالى خمس وثلاثين دقيقة فقط. رفض الوسطاء، الذين نصبوا أنفسهم قضاة في ذات الوقت، تعديل إعلان المبادئ فكان البديل هو أن تموت مبادرة الإيقاد التي أصبحت بالفعل بعد ذلك الاجتماع العاصف كبيت مهجور تخرقه الأنواء من كل جانب. وقد انفتح بذلك المجال أمام مبادرة أفضل وأعدل، لكن الحكومة عادت في عام 1997 وقبلت مبادرة الإيقاد التي أخذت تنتقل من طور إلى طور إلى أن انتهت إلى نيفاشا. بصفتي رئيس الوفد في تلك المهمة الفريدة تعرضتُ لهجمة شرسة من الإعلام الغربي وُصفت فيها بأسوأ النعوت ومن بينها بالطبع أنني شخص متطرف، لكنني على الصعيد الشخصى لم أنم أقرّ عيناً ولا أشفى صدراً من نومي في تلك الليلة.

الآن يبدو أننا في منعطف شبيه يتطلب يقظة وإجماعاً وطنياً. إنني، مستمداً قناعتي من خبرة طويلة، أرى بصمات الدول الغربية الكبرى التي عدلت اسمها هذه الأيام إلى اسم أكثر خفاءً ونعومة هو «المجتمع الدولي»، في كل مباني قرار الاتحاد الإفريقي ومعانيه؛ أعني بذلك القرار الصادر عن مجلس السلم والأمن الإفريقي بشأن السودان وجنوب السودان في الرابع والعشرين من هذا الشهر.
وقبل الخوض في التحليلات، لا بد من إشارة إلى حقيقة مهمة وهي محدودية الدور الإفريقي في التجليات النهائية لعلاقات القوى السياسية في الساحة الدولية. لقد وقف الاتحاد الإفريقي مواقف تضامنية مشرفة مع السودان من قبل، لكن من الواضح أن هناك محددات وسقوفاً لذلك التضامن. بعض هذه المحددات نابع من ضعف جوهري ومؤسسي في معظم الدول الإفريقية التي تعاني هي نفسها من معضلات أمنية واقتصادية تجعلها في موقف استجداء دائم للمساعدات من القوى الكبرى. فضلاً عن ذلك فإن الاتحاد الإفريقي لا تجمعه إيديولوجية سياسية شبيهة بإيديولوجية التحرر من الاستعمار التي وحَّدت الأفارقة في الستينيات وأفرزت منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963.. محدودية الدور الإفريقي وسقفه الأعلى ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عند صياغة سياسات جديدة للتعامل مع الأزمة الراهنة مع حكومة الحركة الشعبية في الجنوب.

عند تحليل القرار الصادر عن الاتحاد الإفريقي فإن أول ما يصدم الناظر هو التطابق الكامل والفاضح بين اللغة والأفكار التي يستخدمها وتلك التي ظلت تعبِّر عنها مؤسسات الحكومة الأمريكية، سواء البيت البيض أو الخارجية أو مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن. ولقد كان من الذكاء المحمود لصائغي القرار أو بالأصح ناقليه ــ أن يُخفوا آثار النقل بشيء من أفانين اللغة، وهو ضرب من النفاق المستحَب في قواعد اللعبة الدولية.

خذ على سبيل المثال لهذا التواطؤ حتى في اللغة، الإصرار المريب على الانحياز إلى الجاني على حساب الضحية في الجملة النمطية التي «ترحب بالانسحاب من هجليج وتدعو إلى وقف القصف الجوي على جنوب السودان». فالجملة كما ترى تبرئ الجاني الذي أقرّ بجنايته أمام العالم ــ وتدين الضحية. فالجاني قد أدى ما عليه وانسحب من الأرض التي احتلها، بينما الضحية ما يزال، يقصف وهو ما ليس بصحيح. إلا أن هناك معنى أغوص يتمثل في التسوية بين فعلين مختلفين تمام الاختلاف من حيث مشروعيتهما. فالذي يقرأ الجملة يفهم منها أن العدوان واحتلال أرض الغير مساو في الجرم لمن يقصف بطيرانه قوى عادية، حتى لو كان ذلك العدوان مشهوداً ومنقولاً على شاشات التلفاز. ولعمري إن صحّ هذا التكييف القانوني فلماذا لا يكون القصف المدفعي الأرضي دفاعاً عن النفس محرماً أيضاً، بل لماذا لا يكون استخدام أدنى سلاح مثل الطبنجة الشخصية عملاً إجرامياً في هذه الحالة. وإذا ثبّتنا هذا المبدأ القانوني الجديد فلماذا لا يصبح القصف الجوي جرماً جديداً في القانون الدولي «وهو ليس كذلك الآن» تطبق عقوبته على الجميع بما فيهم الدول الغربية الكبرى التي تتفنن في كل أنواع القصف على المدنيين بصورة مفرطة، عدواناً وليس دفاعاً.
القرار مليء بالعيوب الشنيعة والانحياز الصريح للحركة وإن تدثر ذلك الانحياز خلف لغة قانونية حمّالة أوجه. وباستطاعة أي ممارس حصيف للسياسة أن يكتب أطروحة مطولة عن عيوب القرار، لكنني سأجتزئ في هذه العجالة بأهم أربع نقاط محصورة بالغرض الذي يعبِّر عنه عنوان المقالة.


النقطة الأولى هي أن القرار مليء بالإحالات إلى مجلس الأمن. وحيث إن الاتحاد الإفريقي لا يملك الإمكانات التخويفية والعقابية التي يملكها مجلس الأمن فإنه يشير في كل فقرة عاملة إلى أنها ستطبق بالتعاون مع مجلس الأمن. بل إنه يطالب في الفقرة «18» مجلس الأمن بأن يُعمل المادة السابعة، أي المادة التي تُجيز استخدام القوة من أجل تطبيق القرار. الاتحاد الإفريقي بقراره هذا يتنازل عن دوره لصالح مجلس الأمن بأريحية مستغرَبة ويرضى بأن ينحصر دورُه في توفير الغطاء والتبرير للتدخل الدولي

النقطة الثانية وتحوي إشارة تقنينية قوية للعمل المسلح ضد الحكومة في الشمال في المادة «16» من القرار. وهي المادة التي تدعو الحكومة السودانية والحركة الشعبية/ قطاع الشمال للجلوس والتفاوض لتحديد مستقبل الشمال. هذا الطلب تقنين للعمل المسلح وإلغاء لفقرات الدستور التي تسمح بالعمل السياسي السلمي وتحرِّم العمل السياسي المسنود بقوة السلاح. وهذا هو الدستور الذي صيغ وفقاً لاتفاقية السلام الشامل والتي يعتبر «المجتمع الدولي» ضامنًا لتطبيقها. وبالطبع لا يحوي القرار نصاً مماثلاً يطلب من حكومة الحركة الشعبية التفاوض مع المجموعات السياسية الجنوبية التي تتقلب تحت البطش اليومي لاستخبارات الجيش الشعبي العسكرية. هذه النقطة تؤسس للاعتراف بالجنوب الجديد تحت قيادة قطاع الشمال الذي سيوكل إليه التفاوض مع الحكومة من أجل اتفاق سلام على غرار نيفاشا. وإذا جرى الاعتراف بقطاع الشمال وفق هذه الشروط فما الذي يمنع قيام قطاعات أخرى مسلحة تفاوض الحكومة على أسس شبيهة؟

النقطة الثالثة مرتبطة بالمادة «13» من القرار وهي التي تدعو الطرفين «السودان وجنوب السودان» للجلوس فوراً للتفاوض تحت رعاية الفريق عالي المستوى وبدعم من رئيس الإيقاد. هكذا تسللت الإيقاد مرة أخرى، تلك المنظمة التي ضلت طريقها إلى التنمية لتصبح أداة متخصصة في تمرير أجندة «المجتمع الدولي» في السودان. ولو أن المادة توقفت عند هذا الحد ولم تفصّل ما ينبغي التفاوض حوله لتركت سعة في جدول الأعمال لانشغالات الطرفين. لكن المادة تحدد بصورة قاطعة ما يجب التفاوض حوله فوراً وهي فقط القضايا ذات الأولوية لحكومة الحركة الشعبية، مثل إيرادات البترول، وأوضاع مواطني البلدين، والحدود، وأبيي. لكن المادة، التي يكاد يجزم المرء أنها صياغة شخصية من قبل مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، تهمل أية إشارة لانشغالات الحكومة المشروعة والمتمثلة في وقف عدوان حكومة الحركة الشعبية من خلال دعمها للحركات المسلحة وسحب الفرقتين التاسعة والعاشرة من جيش الحركة من الأراضي السودانية، وهي كلها مستحقات متبقية من تطبيق اتفاقية السلام الشامل.

أما النقطة الرابعة وهي التي تلخصها المادة «14» من القرار فهي أخطر النقاط. تطالب هذه المادة الطرفين بالوصول إلى اتفاق حول كل القضايا المعلقة في خلال ثلاثة أشهر. وفي حالة الفشل في الوصول لاتفاق سيقوم الفريق عالي المستوى المكوّن من قبل الاتحاد الإفريقي بإعداد تقرير عن المباحثات لرفعه لمجلس الأمن. ليس ذلك فحسب، بل إن الفريق سيرفع قائمة مقترحات بالحل لمجلس الأمن ليفرض تنفيذها بالقوة. ببساطة، وخلافاً لأي شريعة قانونية عرفتها البشرية، سيخلع الوسيط جبة الحياد ويتحول إلى قاضٍ ثم إلى جلاد. وهذه المادة ستجعل مهمة الحركة الشعبية في المفاوضات أيسر وأمتع من رحلة نيلية، فهي ما عليها إلا أن تتعنت وتعطل الوصول لأي اتفاق مع الحكومة السودانية ليقفز حلفاؤها في «المجتمع الدولي» بالمظلات ويستولوا على الموقف وفق الوصف أعلاه. 
لن يعسر على من خبر أساليب «المجتمع الدولي» أن يرسم خارطة دقيقة لما يخطَّط للسودان. الجنوب قد انفصل والصورة التي ترسم له هي أنه دولة فقيرة ومسكينة ما ينفك الشمال يسعى لمعاقبتها وملاحقة شعبها بسبب سعيه للانفصال. وهي ليست مسؤولة أخلاقياً عن واجباتها المنصوص عليها في اتفاقية السلام الشامل لأنها ضحية للشمال. أما الشمال فإنه يهدد السلم العالمي وأمن الولايات المتحدة الأمريكية «هكذا تقول الوثائق الأمريكية الرسمية» ولا بد من وضع حد لمشكلاته المستمرة من خلال مبادرة جديدة يرعاها صورياً الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد لكنها تحت السيطرة الفعلية لمجلس الأمن بكل أدوات القمع والتهديد التي يملكها.

السؤال المطروح بقوة في هذه اللحظة هو ما هي خطة العمل لمواجهة هذا المنعطف الحرج الذي سيقرر مصير السودان. أولاً لا بد من إدراك أن التحدي هو تحدٍ قومي وليس مقتصراً على فئة أو قبيلة أو حزب. إن الخطة التي تحقق أكبر اصطفاف وطني على غرار ما حققه احتلال هجليج هي الجديرة بالنجاح. ثانياً إن المعركة سياسية وقانونية في آن واحد. وسيكون من المفيد أن يأتمر قطاع واسع من القانونيين السودانيين ليبرزوا التناقضات القانونية السافرة في القرار، مثل مبدأ تحول الوسيط إلى قاض. وربما يكون من المناسب مثلاً أن يطلب السودان فتوى قانونية من مؤسسة مثل محكمة العدل الدولية حول مشروعية الدفاع عن النفس باستخدام كل الوسائل العسكرية المشروعة بما فيها القصف الجوي. أرجو أن يعذرني القانونيون على سذاجتي، ولكن الفتوى في هذه القضية ستكون محرجة «للمجتمع الدولي» في حالتي التحليل والتحريم.

على الصعيد السياسي ينبغي إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة ومن ثم سياسة وطنية موحدة تجاهها. على الصعيد الدبلوماسي على السودان أن يسعى فورًا لشرح مقتضيات القرار ومخاطره للدول العربية لمنع انزلاقها نحو تأييد القرار الإفريقي، وأن يسعى في ذات الوقت في حملة دبلوماسية نشطة لتعديل مواقف الدول الإفريقية المفردة تجاه القرار. وسيكون من المفيد أن تشارك في هذه الحملة كل القوى السياسية والمؤسسات القومية والشخصيات السودانية ذات العلاقات الإقليمية والدولية.

كما أن المعركة الآن لا تواجهها منفردة فئة أو جماعة أو حزب، فإنها أيضاً ليست معركة مؤسسة حكومية واحدة. إن أكثر ما يتمناه «المجتمع الدولي» هو أن تواجهه الحكومة معزولة ومنفردة، فيبتز منها حقوق شعبها تحت التهديد والتخويف. لذلك لا بد من رد ما للشعب للشعب. قضايا الحدود على سبيل المثال قضايا مصيرية للمجموعات السكانية الحدودية ولا ينبغي للمفاوضين أن يقرروا فيها دون موافقة تلك المجموعات، وعلى «المجتمع الدولي» وأداته الأساسية مجلس الأمن ــ أن يؤيد ذلك النهج إن كان مهموماً حقاً بإرساء الديمقراطية التي تعبر عن إرادة الشعوب. وعلى البرلمان أن يؤدي دوره في حماية البلاد وحقوق السودانيين من خلال تقييد المفاوضين بثوابت حقوقية وطنية لا يتجاوزونها في مسائل مثل الجنسية والحدود والقضايا الاقتصادية. وهذا التقييد سيعين المفاوضين على أن يوضحوا للأطراف الأخرى الحدود التي لا يسعهم تجاوزها.

أخيراً فقد أثبتت الأحداث في الفترة الماضية أن القوات المسلحة هي الضامن الأقوى حتى الآن لوحدة البلاد وتماسكها. وينبغي أن تترسخ هذه الحقيقة باعتبارها من ثوابت القوى السياسية كما ترسخت لدى عامة المواطنين. وهذا يقتضي تقديم أكبر دعم مادي ومعنوي للقوات المسلحة. وبمقابل ذلك يتوقع المجتمع أن تجري القوات المسلحة بداخلها إصلاحات قوية تعزز مهنيتها وقوميتها وتعدها إعداداً جيداً لأداء مهامها.  

إذا استطاع السودان أن يبني قوة الدفع في هذا الاتجاه، فسيكون بمقدوره أن يقرر رفضه للنقاط المحددة في القرار التي يعترض عليها، كما فعل من قبل عندما رفض بنجاح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1706. إن نجاح هذه الحملة سيفتح الأفق السياسي للسودان لاتخاذ إجراءات ضرورية لوضع حد لمشكلات السودان التي تغذيها التدخلات الدولية من خلال إجماع وطني تاريخي غير مسبوق، وتتحول بذلك الأزمة إلى فرصة جديدة للنجاح

منقول عن الصحف السودانية

هناك تعليقان (2):