أجــيــال- الجالية السودانية بمصر Headline Animator

السبت، 6 أغسطس 2011

اللهجة السودانية فطرية وليست اصطلاحية

منشور فى سودانيل 

د. محمد سعيد الشفيع
قرأتُ أخيرًا في العالم الإسفيري مناقراتٍ عن اللهجة السودانية بين مَن يرميها بالأخطاء ومن يبرئها من هذه الأخطاء، وعلى رأس الفريق الأخير الأستاذ المحسن عبد المنعم عجب الفيا، وهي مناقرات جِدّ مفيدة ونفيسة وبعضها مُحْسِنٌ على حد تعبير الشيخ الجليل عبد الله الطيب عليه شآبيب الرحمة. وساق الكتاب المحترمون أمثلةً لهذه المناقرات مثل لفظة (ساكت)التي أبدع الأستاذ هشام مكي حنفي في تفسيرها والدفاع عنها، واستخدام الفعل (قام) “مساعداً؟” في كثير من الجمل والتعابير التي تتميز بها اللهجة السودانية. وأظن أن هذه سانحة طيبة للدعوة لتأسيس لسانيات خاصة للّهْجة السودانية تستفيد من علوم اللسانيات المعاصرة(وأولها اللّهْجِيَّات)، ومن اللسانيات العربية وخاصة في شقها المبدع مثل (النظرية القصدية في اللسانيات) للأستاذ عالم سبيط النيلي عليه رحمة الله و(نظرية اللسانيات النسبية) للدكتور محمد الأوراغي و(النظرية الخليلية الحديثة) للدكتور عبد الرحمن الحاج صالح. والنظرية القصدية هي التي نستعين بها في هذه المقالة ولا نخالفها إلا في إعادة تعريف الترادف والمجاز، إذ أن لنا في تعريفهما رأي خاص.
وأريد في هذه المقالة القصيرة أن ألفت إنتباه هؤلاء الأفاضل إلى نقطتين أظن أنهما سوف تساعدان في هذه المناقرات النفيسة، وهما ـ أولاً ـ أن الناس (يطلق عليهم العوام) أقرب في تعبيرهم إلى فطرية وقصدية الدلالة المحورية للفظة العربية لأن المعاني متأصلة في نفوسهم، والحمد لله أنهم بعيدون عن اعتباطية الإصطلاح التي أفسدت علينا فطرية المعنى اللساني ودلالته العامة المنطلقة في الفضاء تبحث عن شيء في عالم الخلق أو روح في عالم الأمر تنطبق عليه أو تتشابه معه، ولسانهم ـ الذي نطلق عليه العامي ـ هو بمعانيه الحركية أحسن في تدبر القرءان العظيم من ذلك اللسان الذي سجلته المعاجم العربية؛ و ـ ثانياً ـ توضيح لواحدة من أهم آليات عمل اللسان الفطري وهي الدلالة العامة المنطلقة في الفضاء تبحث عن مدلولها وتتكون من دلالة محورية تبدأ بالجذر ودلالة فرعية تتقدم نحو الجذع وقد تصل إلى الجذم.
ومن الإجمال إلى بعض التفصيل.
النقطة الأولى هي أن الناس ـ أو العامة إن شئتم ـ في لهجتهم أو لَغْوَتهم يعبّرون عن معانٍ فطرية قصدية من دلالات ألفاظهم الحركية التي تنطبق على ما تجده مطابقًا أو مشابهًا لها في الكون. واللسان الفطري قصدي في دلالته، أي أن معاني ألفاظه تابعة لمعاني أصواته ذات القيمة المسبقة. والاصطلاح  ـ رغم اعتباطيته أحيانًا ـ فهو مطلوب خاصةً في اللغات الواصفة واللغات العلمية.
وهنا بعض الأمثلة التي تدل على فطرية لسان الناس.
مثال أول: لفظة“عشق” عند هؤلاء الناس الطيبين لها معنى حركي يطلقونه على كل ما يناسبه من عشق ـ “حركة تتضح معالمها المبهمة وتتشعب إلى وجهٍ آخر بشكل ظاهر  ثم تندفع بتدبير مقصود لهدفٍ معلوم” ـ سواء كان بين حبيبين من الناس أو أي عشيقين، ويجيزون المعنى نفسه إن وجدوا شيئًا في الكون يشابهه وقد وجدوه مرة في جزء من السيارة فأطلقوا عليه آلة التعشيق ثم جاء فيما بعد أهل المجامع اللغوية
وأجازوا ما سار سلفًا على ألسنة الناس.
والمجاز في اللسان الفطري مثله مثل الترادف لا علاقة له بمعنى المجاز عند علماء اللغة والأصول الذين يضعونه في مقابل المعنى الأصلي أو في مقابل الحق. والمجاز كما هو في لفظه، أي إجازة أو تجاوز اللفظة من شيء دلت عليه إلى شيء جديد يمكن أن تدل عليه أيضًا مطابقةً أو مشابهةً ضمن حركة دلالتها العامة، فهم عندما أجازوا العشق من تشابك عواطف الناس إلى تشابك آلاتٍ في السيارة لم يقولوا ولم يقصدوا أن الأول حقيقي والثاني (مجازي) غير حقيقي؛ ولكن المجاز عندهم ـ مرة أخرى ـ هو حركة تعني إجازة اللفظة من دلالة إلى دلالة أخرى بالتطابق أو المشابهة. مثال ثان: أتذكر مرة أنني سألت أمي  لماذا تسمي النساء عنبر الولادة بعنبر القايلة (بالقاف المعقودة) ـ اسم عنبر الولادة في حلفا الجديدة ـ وكنت أعرف أن اللفظة جاءت أصلًا من لفظة (قاينَكولوجي) الطبية ولكن أمي التي لا تقرأ ولا تكتب أجابت بفطرةِ لسانها أنها لا تعرف ولكن ربما لأن النساء تقيِّل فيه، وتعجبت في ذلك الوقت، إذ أنني لم أكن على دراية بفطرية لسان الناس، كيف لها أن تربط بين القيلولة والقايلة لو لم تحس بالمعنى المحوري لمعاني أسرة ألفاظ القيلولة. وكنت أيضًا كلما قلت لها إلتهاب تقول لي استلهاب وبالطبع فقد كنت أراها على خطأٍ حتى وأنا طالب في كلية الطب بيد أنني تبينت لاحقًا أنها على حق فالإلتهاب في السودان هو استلهاب قبل أن يكون إلتهابًا. وأمي هذه التي جعلتها مثلًا هي واحدة من ملايين الناس في بلادي الذين يمتلكون حسًّا لسانيًا قصديًا في تسميته للأشياء ولكن علماء اللسان في السودان لم يطوروا ـ على حد علمي ـ آلة وصف دقيقة (لسانيات اللهجة السودانية) لتوصيف وتفسير هذه اللهجة التي هي رمز التواصل وديوان الحضارة. ومثال ثالث أن الناس عندنا يقولون (كَلْمة ـ بفتح الكاف وسكون اللام) في مثل قولهم <أديني كَلْمة> و<خليك عند كَلْمتك> وفي هذا النطق فهم يقصدون كَلْمة التي جمعها كَلِم وليست كَلِمة التي جمعها كَلِمات لأنهم بفطرتهم يعرفون أن الكَلْمة هي واحدة الكَلِم والقول، ويؤيدهم القرءان العظيم الذي ورد فيه أن الكلمات هي الموجودات في الكون وأن الكَلِم والكلام يمكن تحريفهما [يحرفون الكلم عن مواضعه | يحرفون الكلم من بعد مواضعه | وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه]، والكلام يمكن أيضًا تبديله زيادة على تحريفه [يريدون أن يبدلوا كلام الله]، بينما الكلمات نفى الله عنها المبدل والتبديل [وتمت كَلِمة ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته | لا تبديل لكلمات الله]، والكلمات من عالم الخلق الذي لا يمكن تبديله [فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله]. ومن هنا نستطيع أن نقول أن لسان الناس (في لهجاتهم العربية) فطري كما أن لسان القرءان فطري محفوظ في نصه وخطابه ولكنه تعرض في تفسيره للتحريف من أوجهٍ عدة:  منها أن  ألفاظه لا تُشرح وتُتدبر من قيم أصواتها ومعني جذرها بل يفسرها العلماء بمساواة لفظةٍ بأخرى لا علاقة لها بها مثل ما نفعل إذ نساوي المشركين بالكافرين في الدلالة، زيادةً على أننا لا ننتبه إلى دقة الصياغة القرءانية في دلالتها على المعاني الفرعية المتمايزة عن المعنى المحوري لجذرها مثل مجموعات الكفر المختلفة التي تبدأ بمجموعة الذين كفروا (واحدها الذي كفر) ثم مجموعة الكافرين (واحدها الكافر) ثم مجموعة الكُفّار (واحدها الكَفّار) ثم مجموعة الكفرة (واحدها الكفور). مثال أخير يخص التركيب في اللسان الفطري: في اللهجة السودانية نقول “درسوا الأولاد” بعلامة المطابقة بين الفاعل الجمع وفعله. ويرى الكثيرون منا أن هذه الجملة خطأ ويقيسونها على المشهور في النحو العربي القديم بلغة “أكلوني البراغيث”. وهذا التركيب وارد في القرءان العظيم في آية الأنبياء 3 [وأسروا النجوى الذين ظلموا] وآية المائدة 71 [ثم عموا وصموا كثير منهم] وفي شواهد لسانية ـ للاستئناس فقط ـ مثل (يتعاقبون فيكم ملائكة) و(يلومونني في حب ليلى عواذلي). وحديثًا وصفت نظرية اللسانيات النسبية لفظة الأولاد في التراكيب الثلاثة [درس الأولاد | الأولاد درسوا | درسوا الأولاد] بأنها في وظيفة الفاعل وإجراء المطابقة حيث لا يلزم تركيبيًا فلغرض تداولي. ولمعرفة لماذا ينطق السودانيون بعض الألفاظ مثل الحُمار والحُصان بالضم فقد كتبنا فيه مقالة سابقة يمكن مراجعتها لمن يريد.
النقطة الثانية هي أن الدلالة (المعنى) تتفرع بالنظر إلى الجذر والجذع إلى (1) دلالة محورية تنتج عن معاني أصوات الجذر وترتيبها، (2) ودلالة فرعية يزيد معناها بزيادة مبناها الذي ينتج بدوره عن الحركات والصياغة. والصياغة هي أوزان معروفة أو كامنة تنتج من نظام الاشتقاق الذي يعمل على نظام التصريف بزيادةٍ من أصوات ـ سألتمونيها ـ أو غيرها من الأصوات الأخرى مثل الراء في لفظة (بعثر) القرءانية، بالإضافة إلى التضعيف.
وإن أردنا أن نطبق هذه القاعدة على لفظة (ساكت) المشهورة في لهجتنا السودانية، فدلالتها الأصلية ناتجة عن  دلالة الأصوات (السين والكاف والتاء) المكونة لجذرها الأصلي؛ وعن ترتيب هذه الأصوات (السين أولًا فالكاف ثانيًا ثم التاء ثالثًا)؛ وعن الحركات (فتح السين بعدها ألف المد فالكسرة على الكاف ثم سكون التاء)؛ وأخيرًا صيغة (فاعل). هنا أيها الأفاضل شرح لدلالة الأصوات ولن نتكلم عن الترتيب ولا الحركات ولا الصياغة. السين تعني (انسلال الحركة خفيةً لتظهر فيما بعد) والكاف تعني (تكتل الحركة مع ما يشبهها وهو تكتل للمتآلفات) والتاء تعني (إجتذاب الحركة لأمثالها لتشكيل حركات مترتبة معها)؛ فهذه حركةٌ منسلةٌ خفيةً متكتلةٌ مع متآلفاتها ومجتذبةٌ لأمثالها، وإن تأملت حركة السكوت فهذا هو معناها، سواء كان سكوتًا عن الكلام أو أن يسكت الغضب عن موسى أو أن تفعل شيئًا ساكت أو أن تقول كلامًا ساكت أو غيرها من الحركات غير المتناهية التي تنطبق عليها أو تتشابه معها دلالة حركة السكوت. ما أريد قوله أن المعاجم العربية قرنت دلالة اللفظة العامة بواحدةٍ من معانيها التي تشيّأت في شيء بعينه مثل ما فعلت حين قرنت الاشتعال بالنار في حين أن الاشتعال حركة عامة (الانتشار السريع لأمر ما في شيء ما) ترتبط بفاعلها ويمكن أن يتصف بها الرأس “اشتعل الرأس شيبًا” أو الدار “اشتعلت الدار بالفتنة أو بالنار” كما جاء في النظرية القصدية.
والذي يفيدنا في لهجتنا السودانية أن نرى أن دلالة أي لفظ عامة متحركة في الكون يمكن أن تنطبق على أي شيء ولا يمكن لنا أن نجعلها ساكنة بأن نقرنها بشيء واحد ثم نخترع آلية المجاز لحل المشكلة التي خلقناها بأنفسنا بتثبيت دلالة اللفظة العامة على شيء واحد. والحمد لله أن اللهجة، لسان الناس، قد خلت من ذلك إن أردنا أن نصفها دون أن نفرض عليها قواعدنا الفاسدة. ومثال واحد يتبدى في لفظة ذاق ولفظة أكل، حيث أن الناس تستعمل هاتين اللفظتين استعمالًا دلاليًا صحيحًا ؛ فالذوق في معناه الحركي العام هو حصول الإحساس الحقيقي بالشيء، وبهذا المعنى استعمله القرءان مقترنًا بالرحمة والعذاب والخزي والشجرة والموت، وبالمعنى نفسه استعملته اللهجة السودانية أيضًا (ذوق المال وذوق القهر وذوق الذل وذوق الجنس وغيره) ولم تقصره على المطاعم والمشارب كما يقول كثير من علمائنا، إذ المطاعم والمشارب جزء من مقترنات الذوق وليست أصلًا له حتى نضطر لمقولة المجاز بمعناها العُلَمَائي؛ أما الأكل فاللهجة السودانية تستعمله في معناه الفطري الحركي العام حيث يمكنك أن تأكل فاكهةً أو امرأةً أو مالًا أو غير ذلك، وعليك فقط أن تنظر كيف استعمل القرءان العظيم لفظ الأكل في معناه الحركي العام (أكل الشجرة وأكل الربا وأكل التراث ويأكل لحم أخيه ميتًا وأكل النار  وغيرها من الإقترانات).
وأرجو أن يكون في هذه المقالة بعض الفائدة وقليل من الأخطاء. والله أعلم.


موضوعات ذات صلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق